• 0 أصوات - بمعدل 0
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
مماليك مصر
#1
الدَّولَةُ المَملُوكِيَّةُ أو السَّلطَنَةُ المَملُوكِيَّةُ أو دَولَةُ المَمَالِيك أو سِلطَنَةُ المَمَالِيك هي إحدى الدُول الإسلاميَّة التي قامت في مصر خِلال أواخر العصر العبَّاسي الثالث، وامتدَّت حُدُودها لاحقًا لِتشمل الشَّام والحجاز، ودام مُلكُها مُنذُ سُقُوط الدولة الأيوبيَّة سنة 648هـ المُوافقة لِسنة 1250م، حتَّى بلغت الدولة العُثمانيَّة ذُروة قُوَّتها وضمَّ السُلطان سليم الأوَّل الديار الشَّاميَّة والمصريَّة إلى دولته بعد هزيمة المماليك في معركة الريدانيَّة سنة 923هـ المُوافقة لِسنة 1517م.

يُقسم المُؤرخون الدولة المملوكيَّة إلى فرعين أو دولتين هُما: دولة المماليك البحريَّة ودولة المماليك البُرجيَّة. حكم المماليك البحريَّة من سنة 648هـ المُوافقة لِسنة 1250م إلى سنة 784هـ المُوافقة لِسنة 1382م، وكان أكثرهُم من التُرك والمغول. وحكم المماليك البُرجيَّة من سنة 784هـ المُوافقة لِسنة 1382م إلى سنة 923هـ المُوافقة لِسنة 1517م، وكانوا من الشركس. والمماليك أُصُولهم رقيقٌ مُحاربين، استقدمهم الخُلفاء العبَّاسيين الأوائل من تركستان والقوقاز وغيرها وجعلوهم حُرَّاسًا لهم وقادةً لِجُيُوش المُسلمين، وقد ازداد نُفُوذ المماليك بِمُرور الزمن حتَّى أصبحوا يُهيمنون على الخِلافة وعلى مركز صناعة القرار، مُستفيدين من ضِعف الخُلفاء وتراجُع نُفوذهم. وحذا السلاطين والأُمراء المُسلمين حُذو الخِلافة في بغداد، فكان لِكُلٍ منهم جماعةً من المماليك الأشدَّاء والكفوئين عسكريًّا، ومن هؤلاء السلاطين الأيُّوبيين الذين حكموا مصر والشَّام تحت الرَّاية العبَّاسيَّة. ولمَّا مات آخر سلاطين بني أيُّوب، وهو الملكُ الصَّالح نجمُ الدين أيُّوب، سنة 647هـ المُوافقة لِسنة 1249م، كتمت زوجته شجر الدُّر نبأ موته إلى أن حضر ابنه توران شاه من الجزيرة الفُراتيَّة إلى القاهرة. وحاول توران شاه أن يُقدِّم مماليكه الذين اصطحبهم معه من الجزيرة، فعيَّنهم في مناصب الدولة، فما كان من المماليك القُدماء في مصر إلَّا أن ائتمروا به وقتلوه، ثُمَّ نصَّبوا شجر الدُّر سُلطانة عليهم في سنة 1250م، وهي أوَّل امرأة وُلِّيت شُؤون المُسلمين.

ظهر المماليك بِمظهر مُنقذي العالم الإسلامي من الضياع والزوال بعد سُقُوط بغداد عاصمة الدولة العبَّاسيَّة والخِلافة الإسلاميَّة في يد المغول بِقيادة هولاكو خان، ومقتل آخر خُلفاء بني العبَّاس أبو أحمد عبد الله المُستعصم بِالله. فقد سار المغول لِغزو الشَام وهدَّدوا مصر بِمصيرٍ مُشابه لِمصير بغداد كي لا تقوم لِلإسلام قائمة بعد ذلك، فأرسل سُلطانُ المماليك سيفُ الدين قُطُز جيشًا عرمرميًّا إلى فلسطين لِصدِّ التقدُّم المغولي وحماية قلب الديار الإسلاميَّة، فهزم المُسلمون المغول في معركة عين جالوت بِشمال فلسطين سنة 1260م، وردُّوهم على أعقابهم. أضف إلى ذلك، ورث المماليك عن الأيُّوبيين تصميمهم على مُحاربة الصليبيين وإجلائهم عن المشرق، لِذلك ما كادوا يفرغون من مُحاربة المغول حتَّى انصرفوا إلى مُحاربة الصليبيين. كان الملكُ الظَّاهر بيبرس أوَّل من تابع مسيرة الجهاد ضدَّ الصليبيين، فهاجمهم بعد انتصاره على المغول، فصارت مُدنهم وقلاعهم تسقط واحدة بعد الأُخرى في يد المُسلمين، فقد استعاد بيبرس الكرك وقيسارية وصفد ويافا وجُبيل وعرقة ما بين سنتيّ 1263 و1266م، وفي سنة 1268م استعاد المُسلمون أنطاكية وزالت إمارتها الإفرنجيَّة من الوُجود. وجاء السُلطان سيفُ الدين قلاوون يُكمل عمل سلفه بيبرس، فاسترجع قلعة المرقب في سنة 1281م، وطرابُلس الشَّام والبترون في سنة 1289م. وتُوفي السُلطان قلاوون في سنة 1290م وهو يُهيِّء حملة لاسترجاع عكَّا، فقام بهذه المُهمَّة بعده ابنه الملك الأشرف صلاحُ الدين خليل واستولى على عكَّا سنة 1291م. وقد أثار سُقُوطها، وهي المرفأ الرئيسي لِلصليبيين، القلق والذُعر الشديدين في نُفُوسهم، فجلوا عن المُدن الأُخرى الباقية في أيديهم، مثل صُور وصيدا وبيروت، وركبوا البحر عائدين إلى بلادهم، لِتنتهي بِذلك الحُرُوب الصليبيَّة بعد أن استمرَّت مائة وأربعًا وتسعين سنة. أعاد المماليك إحياء الخِلافة العبَّاسيَّة في مصر بعد سُقُوط بغداد، لكنها كانت خِلافة صوريَّة هدف السلاطين المماليك إلى جعلها سندًا لِسلطنتهم ودعمًا روحيًّا لها يجعلها مهيبة الجانب.

يُعدُّ عهد المماليك بداية دور الانحطاط في تاريخ الحضارة الإسلاميَّة، ولكن ليس معنى ذلك أنَّ هذا العهد كان مُجدبًا تمامًا، إذ شهد عدَّة مُنجزات علميَّة وفكريَّة، وإنما بدأت الحضارة الإسلاميَّة في تلك الفترة تتراجع شيئًا فشيئًا. ففي حقل العلم كانت القاهرة ودمشق وحماة من أهم مراكز طب العُيُون في العالم، وقد أخرجت عددًا من الأطباء الأفذاذ الذين كانوا حُجَّة ومرجعًا في هذا العلم. أمَّا في الأدب والتاريخ والدين فقد ظهر عددٌ من أعظم الباحثين وأغزر المُؤلفين المُسلمين، مثل ابن خلِّكان صاحب كتاب «وفيَّات الأعيان» في السِّير، وأبي الفداء صاحب كتاب «تقويم البُلدان» في الجُغرافيا، والسُّيوطي وابن خلدون والمقريزي، وابن كثير صاحب كتاب «البداية والنهاية»، وهم من أشهر المُؤرخين المُسلمين. وقد اشتهر بعضُ سلاطين المماليك بِتشجيع العلم وتكريم العُلماء وبِإنفاق المال بِسخاء على تأسيس المدارس وإنشاء المكتبات، ومن تلك الصُرُوح العلميَّة: المدرسة الناصريَّة ومدرسة قايتباي في القاهرة، والمدرسة والمكتبة الظاهريَّة في دمشق، والمدرسة القرطائيَّة في طرابُلس الشَّام. أيضًا أصبح الجامع الأزهر في العهد المملوكي جامعةً كُبرى تُدرِّس بها مذاهب أهل السُنَّة والجماعة الأربعة إلى جانب العُلُوم الأُخرى. ساءت الحالة الاقتصاديَّة في الدولة المملوكيَّة خِلال أواخر العهد البُرجي بِسبب حالة القلق وعدم الاستقرار الناجمة عن الفتن الداخليَّة والانقلابات، وعن الحُرُوب الكثيرة التي شنَّها المماليك ضدَّ المغول والصليبيين وغيرهم، وبسبب توقُّف حركة التجارة مع أوروپَّا بِسبب مشاعر الخوف والكراهيَّة وعدم الثقة التي خلَّفتها الحُروب الصليبيَّة بين الأوروپيين والمُسلمين، وكذلك بِسبب انتشار المجاعة والأوبئة وخُصُوصًا وباء الطاعون الذي فتك في سنة 1348 - 1349م بِأكثر من مليون شخص، وأخيرًا بِسبب روح الطمع والأنانيَّة التي سيطرت على عددٍ كبيرٍ من سلاطين المماليك وجعلتهم يُوجهون سياسة الدولة الاقتصاديَّة وفقًا لِمصالحهم الشخصيَّة. فكان ذلك من العوامل المُساعدة التي ساهمت بِتسريع سُقُوط الدولة في يد العُثمانيين، وتطلُّع الشعب في الشَّام ومصر إلى هؤلاء كمُنقذين.

تسمية الدولة :

تسمية الدَّولة المملوكيَّة أو السلطنة المملوكيَّة تسمية تأريخيَّة حديثة نسبيّاً ابتكرها المُؤرخون المُعاصرون، ولم تكن معروفةً في عصر المماليك، وإنما عُرفت هذه الدولة بِتسمياتٍ مُختلفةٍ في زمنها. سمَّت المراجع العربيَّة المُعاصرة لِعهد المماليك البحريَّة هذه الدولة باسم «دولة الأتراك» أو «دولة التُرك» أو «الدولة التُركيَّة»، وفي عهد المماليك البُرجيَّة سُميت الدولة باسم «دولة الجراكسة» أو «الدولة التُركيَّة الجركسيَّة»، على اعتبار أنَّ المماليك الشراكسة (الجراكسة) كانوا يتحدثون بِالتُركيَّة لأنهم تربّوا مُنذ استقدامهم لمصر في كنف المماليك التُرك. من التسميات الأُخرى التي اعتمدها المُؤرخون المُسلمون قديماً أيضاً، وإن يك نادراً: «الدولة البحريَّة» و«الدولة البُرجيَّة»، في كُلِّ عهدٍ على حدة، وشاعت هذه التسميات في العصر الحالي لِلتمييز بين العهدين المملوكيين. عُرفت هذه الدولة كذلك باسم «الدولة المغوليَّة»، وذلك لِفترةٍ قصيرةٍ فقط من عُمرها، خِلال سلطنة العادل كتبغا لكونه مغولياً. أيضاً، عُرفت الدولة طيلة عهد السُلالة القلاوونيَّة (678 - 784هـ \ 1279 - 1382م) باسم «دولة بني قلاوون» أو «دولة قلاوون»، كما عُرفت قبل ذلك في عهد الظاهر بيبرس وابنيه السعيد ناصر الدين مُحمَّد والعادل بدر الدين سُلامش باسم «الدولة الظاهريَّة».

أُصول المماليك :

المملوك، جمعه مماليك، هو العبد الذي سُبي ولم يُملك أبواه، والعبدُ القن هو الذي مُلك هو وأبواه. والمملوك عبدٌ يُباع ويُشترى. ولم تلبث التسمية أن اتخذت مدلولًا اصطلاحيًّا خاصًّا في التاريخ الإسلامي، إذ اقتصرت، مُنذُ عهد الخليفة العبَّاسي أبو العبَّاس عبدُ الله المأمون (198 - 218هـ \ 813 - 833م)، ثُمَّ أبو إسحٰق مُحمَّد المُعتصم بِالله (218 - 227هـ \ 833 - 842م) على فئة من الرقيق الأبيض، كان الخُلفاء وكبار القادة والوُلاة في دولة الخِلافة العبَّاسيَّة، يشترونهم من أسواق النخاسة البيضاء لاستخدامهم كفرقٍ عسكريَّةٍ خاصَّة، بِهدف الاعتماد عليهم في تدعيم نُفوذهم. وأضحى المملوك، مع مُرُور الوقت، الأداة العسكريَّة الوحيدة في بعض الدُول الإسلاميَّة. وكان مصدرهم، آنذاك، بلاد ما وراء النهر. واشتهرت مُدن سمرقند وفرغانة وأشروسنة، والشَّاش وخوارزم، بِأنها المصادر الرئيسيَّة لِتصدير الرقيق الأبيض ذوي الأُصُول التُركيَّة، وتمَّ ذلك بِإحدى الطُرق الثلاث: الشراء أو الأسر في الحُرُوب أو الهدايا التي كان يُؤديها وُلاة أقاليم بلاد ما وراء النهر على شكل رقيق إلى الخليفة. ويبدو أنَّ الخليفة المُعتصم هو أوَّل خليفة اعتمد، بشكلٍ أساسيٍّ، على العُنصر التُركي، نظرًا لِمقدرتهم القتاليَّة المُميزة، حتَّى أضحى الحرس التُركي يِمثِّلُ دعامةً من دعائم الخِلافة أيَّام حُكمه، فاقتناهم مُنذُ أن كان أميرًا. فكان يُرسلُ سنويًّا من يشتري له منهم، حتَّى اجتمع لهُ في أيَّام المأمون زهاء ثلاثة آلاف. ثُمَّ تولَّى الخِلافة في ظل ظُروفٍ من الصراع العنيف بين العرب من ناحية والفُرس من ناحيةٍ أُخرى بِالإضافة إلى اختلالٍ في التوازنات بين العناصر التي تكوَّنت منها دولة الخِلافة العبَّاسيَّة. فلم يثق المُعتصم بِالفُرس نظرًا لِسُوء العلاقة بينهم وبين بني العبَّاس مُنذُ انتقال المأمون من مرُّو إلى بغداد واستحالة التوفيق بين مصالح الطرفين، ولم يثق بِالعرب أيضًا نظرًا لِكثرة تقلُّبهم واضطرابهم وقيامهم ضدَّ الخُلفاء، بِالإضافة إلى أنَّ هؤلاء فقدوا كثيرًا من مُقوِّمات قُوَّتهم العسكريَّة والسياسيَّة في ذلك الوقت. حملت هذه المُعطيات، الخليفة المُعتصم على أن يُوكِّل أمر سلامته الشخصيَّة إلى فرقة من العُنصُر التُركي، فاستكثر من شراء التُرك بِهدف الحد من النُفُوذين العربي والفارسي، حتَّى بلغت عدَّتهم ثمانية آلاف مملوك، وقيل ثمانية عشر ألفًا. وخصَّهم بِالنُفُوذ، وقلَّدهم قيادة الجُيُوش، ومكَّنهم في الأرض، وجعل لهم مركزًا مُتفوقًا في مجال السياسة. وسُرعان ما نمت قُوَّتهم، فأخذوا يتدخَّلون في شُؤون الخِلافة، حتَّى أمست دولة الخِلافة العبَّاسيَّة في أيديهم، يفعلون ما يُريدون، يعزلون خليفة ويُولُّون آخر، حتَّى أنَّ بعض الخُلفاء قُتلوا نتيجة مُؤامراتهم. وأضحى العُنصر التُركي رُكنًا هامًّا في المُجتمع الإسلامي مُنذُ العصر العبَّاسي الثاني (232 - 334 هـ \ 847 - 946م)، فقامت الدُويلات المُستقلَّة ذات الأُصُول التُركيَّة والفارسيَّة في كنف دولة الخِلافة العبَّاسيَّة بعد أن دبَّ فيها الضُعف، وغدا التُرك وسيلة الخُلفاء لِلقضاء على هذه الحركات الاستقلاليَّة، خاصَّةً عُمَّال ووُلاة الأطراف الذين استقلُّوا بِولاياتهم.

المماليك في مصر :

رسم جداري لِلخليفة الفاطمي الحاكم بِأمر الله، الذي مال إلى الاعتماد على المماليك الزُنُوج خِلال فترة حُكمه.
يرجعُ استخدام المماليك في جيش ولاية مصر إلى العهد الطولوني، عندما عيَّن الخليفة العبَّاسي أبو العبَّاس أحمد المُعتمد على الله أحمد بن طولون، التُركيّ الأصل، واليًا على الديار المصريَّة في سنة 263هـ المُوافقة لِسنة 877م، فطمع هذا بالاستقلال بها بعد أن أضحت جميع أعمالها الإداريَّة والقضائيَّة والعسكريَّة والماليَّة بِيده. وحتَّى يُحقق أحمد بن طولون رغبته بِالاستقلال في حُكم مصر؛ رأى أن يدعم سُلطته بِجيشٍ مملوكيٍّ من التُرك من بني جنسه بِالإضافة إلى العُنصر الديلمي، وقد بلغ تعداد هذا الجيش ما يزيد عن أربعةٍ وعشرين ألف غُلامٍ تُركيٍّ. ومُنذُ ذلك الوقت، أضحى جُندُ مصر ووُلاتها من المماليك التُرك، ولمَّا توسَّعت حُدود الدولة الطولونيَّة لِتشمل الشَّام، أضحى حالُ جُند الشَّام كحال جُند مصر. وقد نهجت الدولة الإخشيديَّة، التي خلفت الدولة الطولونيَّة في حُكم مصر، نهج هذه الدولة الأخيرة في الاعتماد على المماليك. وقد بلغ تعداد مماليك مُحمَّد بن طُغج الإخشيد، مُؤسس الدولة الإخشيديَّة، نحو ثمانية آلاف مملوكٍ من التُرك والديلم، وقيل أنَّهُ كان ينام بِحراسة ألف مملوك. ولمَّا استولى الفاطميُّون على مصر في سنة 358هـ المُوافقة لِسنة 969م، اعتمد خُلفائهم الأوائل، مُنذُ أيَّام أبي تميم معدّ المُعز لِدين الله على عدَّة عناصر تُركيَّة وزنجيَّة وبربريَّة وصقلبيَّة. واستخدم الخليفة الفاطمي أبو منصور نزار العزيز بِالله التُرك في الوظائف العامَّة والقياديَّة في الدولة، وفضَّلهم على غيرهم من العرقيَّات الأُخرى، فولَّى مملوكه «منجوتكين» التُركي قيادة الجيش، كما ولَّاه الشَّام. وكان نُفُوذُ المماليك التُرك يتزايد أو يتناقص وفق توجُّه كُل خليفةٍ فاطميٍّ على حدى، ففي عهد أبو عليّ المنصور الحاكم بِأمر الله تراجع نُفوذهم لِحساب الزُنج، ثُمَّ نشطوا مرَّة أُخرى في عهد الخليفة أبو الحسن عليّ الظاهر لِإعزاز دين الله الذي جعل قيادة الجُيُوش في يد المملوك التُركيّ الأصل منصور أنوشتكين. وقد ولَّاه الظاهر دمشق في سنة 419هـ المُوافقة لِسنة 1028م. واهتمَّ الفاطميُّون بِتربية صغار مماليكهم وفق نظامٍ خاص، وهم أوَّل من وضع نظامًا منهجيًّا في تربية المماليك في مصر. وفي سنة 567هـ المُوافقة لِسنة 1171م، سقطت الدولة الفاطميَّة في مصر وقامت الدولة الأيُّوبيَّة على أنقاضها، لِتفتح صفحة جديدة في تاريخ الشرق الأدنى والمماليك معًا.


رسمٌ لِلملك الناصر صلاحُ الدين الأيُّوبي، الذي اعتمد على المماليك اعتمادًا كبيرًا في حُروبه لِتوحيد المُسلمين والقضاء على الصليبيين.
وكان الأيُّوبيين - الأكراد أصلًا - قد تربُّوا ونمت سُلالتهم في أحضان الدولة السُلجُوقيَّة التُركيَّة ومماليكها، فنقلوا عنها الكثير من عاداتها وأنظمتها التُركيَّة المشرقيَّة. وكان الأيُّوبيين يُربُّون مماليكهم على أساس النظام الإسلامي المملوكي - الساماني الذي وضعهُ الوزير السُلجُوقي نظام المُلك وفصَّلهُ في كتابه «سياسة نامه»، ثُمَّ يتم إدخالهم في خدمة القُصُور السُلطانيَّة والدوائر الحُكُوميَّة. ولمَّا توجَّه القائد أسدُ الدين شيركوه إلى مصر لِنُصرة آخر الخُلفاء الفاطميين أبو مُحمَّد عبدُ الله العاضد لِدين الله ولِلحيلولة دون احتلال البلاد من قِبل الصليبيين، كان غالبيَّة جيشه يتألَّف من المماليك التُرك القفجاق الذين سُمُّوا بـ«المماليك الأسديَّة» نسبةً له، أي أسدُ الدين. بعد وفاة أسد الدين، وقفت المماليك الأسديَّة إلى جانب ابن أخيه صلاحُ الدين وناصروه حتَّى تولَّى الوزارة في مصر، وأنشأ هذا الأخير لِنفسه جيشًا خاصًا عماده المماليك الأسديَّة والأحرار الأكراد، بِالإضافة إلى المماليك التُرك الذين اشتراهم لِنفسه وسمَّاهم «الصلاحيَّة» أو «الناصريَّة»، كما كان لِأخيه العادل أبي بكر طائفةٌ من المماليك سمَّاهم «العادليَّة».

اشتركت فئات المماليك الأسديَّة والصلاحيَّة والعادليَّة في مُختلف المعارك التي خاضها صلاحُ الدين ضدَّ الأُمراء المُسلمين بِهدف تحقيق الوحدة الإسلاميَّة وضدَّ الصليبيين بِهدف طردهم من ديار الإسلام. والواقع أنَّ المماليك بلغوا في هذه المرحلة مبلغًا من القُوَّة، ممَّا دفع صلاح الدين إلى استشارتهم والنُزُول عند إرادتهم في كثيرٍ من الأحيان. وازداد عددهم في مصر والشَّام بعد وفاة صلاح الدين في سنة 589هـ المُوافقة لِسنة 1193م بِشكلٍ مُلفت، وبرزوا على أثر اشتداد التنافس والصراع بين ورثته من أبنائه وإخوته وأبناء إخوته الذين اقتسموا فيما بينهم الإرث الأيُّوبي. ومع تنامي قُوَّة المماليك نتيجة كثرة اعتماد الأُمراء الأيُّوبيين عليهم، أخذوا يتدخَّلون في خلع هؤلاء الأُمراء والسلاطين وفي تنصيبهم.

التاريخ :

انتقال الحُكم من الأيوبيين إلى المماليك 

جزيرة الروضة التي نُسب إليها المماليك فُعُرفوا بِالبحريَّة، وفق بعض الآراء.

اشتباك الصليبيين والمُسلمين بِقيادة المماليك في المنصورة.

لويس التاسع أسيراً بيدِ المُسلمين بعد فناء جيشه في فارَسْكور.
بعد وفاة الملك الكامل ناصرُ الدين مُحمَّد الأيُّوبي سنة 635هـ المُوافقة لِسنة 1238م عارض مماليكه ما جرى من تنصيب ابنه الأصغر سيفُ الدين أبو بكر، فتحالفوا مع المماليك الأشرفيَّة بِزعامة عز الدين أيبك، وتآمروا على خلع أبي بكر سنة 637هـ المُوافقة لِسنة 1240م، وهزموا من ناصرهُ من الكُرد. بعد ذلك فرض المماليك الكامليَّة (مماليك الملك الكامل ناصر الدين) -وكانوا الأقوى على الساحة السياسيَّة- رغبتهم على الأشرفيَّة بِتنصيب نجم الدين أيُّوب بن مُحمَّد، فاستُدعي الأخير من حصن كيفا في الجزيرة الفُراتيَّة لِتولِّي السُلطة في مصر التي دخلها سنة 638هـ المُوافقة لِسنة 1240م، وجلس على العرش وتلقَّب بِالملك الصَّالح. كانت قضيَّة تنصيب الملك الصَّالح سابقةً في تاريخ مصر والإسلام، إذ قام المماليك لِأوَّل مرَّة بِدورٍ سياسيٍّ ضاغطٍ، فأضحوا الأداة لِلسلاطين الأيُّوبيين لِلاحتفاظ بِسُلطانهم وتفُّوقهم، ممَّا أدَّى إلى تضخُّم نُفُوذهم السياسي، وازدادوا شُعُوراً بِأهميَّتهم. أدرك الصَّالح أيُّوب أهميَّة المماليك لِلاستمرار في الحُكم ما دفعهُ إلى الإكثار من شرائهم إلى درجةٍ لم يبلغْها غيره من الأمراء الأيوبيين حتَّى أضحى مُعظم جيشه منهم، واعتنى بِتربيتهم تربيةً خاصّةً ثُمَّ جعلهم بطانته وحرسه الخاص. استغلَّ المماليك الصالحيَّة سطوتهم في مُضايقة الناس والعبث بِمُمتلكاتهم وأرزاقهم، حتَّى ضجَّ الشعب من عبثهم واعتداءاتهم، فرأى الصَّالح أيُّوب أن يُبعدهم عن العاصمة، واختار جزيرة الروضة في النيل لِتكون مقراً له، فانتقل إليها مع حاشيته ومماليكه الذين بنى لهم قلعة خاصَّة أسكنهم بها، فعُرفُوا مُنذُ ذلك الحين بِـ«المماليك البحريَّة الصالحيَّة». تعرَّضت مصر أواخرَ أيَّامِ الصَّالح أيُّوب لغزوٍ صليبيٍّ كبير بِقيادة لويس التاسع ملك فرنسا [ما اصطلح عليه بالحملة الصليبيةِ السابعة]، ففي فجر السبت 22 صفر 647هـ المُوافق فيه 5 حُزيران (يونيو) 1249م نزل الصليبيُّون برَّ مدينة دُمياط، واحتلُّوا المدينة بِسُهولة بعد انسحاب حاميتها وهروب أهلها منها. وتُوفي في تلك الفترة الحرجة الصَّالح أيُّوب بعدما اشتدَّ عليه المرض، فأخفت زوجته شجر الدُّر موته خشية تضعضع الأوضاع، وأرسلت تدعو ابنه الوحيد توران شاه من حصن كيفا لِلقُدوم إلى مصر على عجلٍ لِيتولَّى الحُكم. علم الصليبيُّون بِوفاة الصَّالح أيُّوب رُغم كُل الاحتياطات التي اتخذتها شجر الدُّر لِإخفاء الأمر، فاتخذوها فُرصةً لِتوجيه ضربةٍ قاضيةٍ لِلمُسلمين قبلما يفيقوا من هول الصدمة، فزحفوا من دُمياط نحو المنصورة. أمسك المماليك بِزمام الأُمُور بِقيادة فارس الدين أقطاي الجمدار، الذي أصبح القائد العام لِلجيش (أتابك العسكر)، ووضع أحد أبرز قادتهم بيبرس البندقداري خطَّة عسكريَّةً مُحكمةً كفلت النصر على الصليبيين، وفي تلك الأثناء وصل توران شاه إلى مصر وتسلَّم مقاليد الأُمُور، وأعدَّ خطَّةً أُخرى ضمنت النصر النهائي على الصليبيين في قرية فارَسْكور، فهُزم هؤلاء هزيمةً كُبرى وفَنيَ جيشهم على يد المماليك، ووقع لُويس التاسع نفسهُ في الأسر، وقتل أخاه في المعركة. على هذا الشكل انتهت الحملة الصليبيَّة على مصر بِفضل جُهُود المماليك. اشتهر السُلطان الجديد توران شاه بِأنَّهُ شخصيَّة عابثة، واتَّصف بِسُوء الخلق والتصرُّف والجهل بِشُؤون الحُكم والسياسة، فبعد انتصاره على الصليبيين ازداد غُروره وتناسى ما أبلاه مماليك أبيه من صد الصليبيين، فلم يُقدِّر ثمن هذا النصر، كما لم يُقدِّر جُهودهم في الحفاظ على نظام الحُكم كي يُؤمِّنوا العرش له. ويبدو أنَّ توران شاه فقد ثقته بهم بعد انتصاره على الصليبيين عندما شعر بِأنَّ لهُ من القُوَّة ما يكفي لِأن يملأ الوظائف الحُكُوميَّة بِمماليكه الذين اصطحبهم معه من الجزيرة الفُراتيَّة، ولمَّا احتجَّ عليه المماليك البحريَّة ردَّ عليهم بِالتهديد والوعيد، ثُمَّ أعرض عنهم، وأبعدهم عن المناصب الكُبرى، وجرَّدهم من مظاهر السُلطة وأخيراً أمر باعتقالهم.


لوحة تعبيريَّة عن اغتيال توران شاه على يد مماليك أبيه بعدما أساء التصرُّف على المُستويين السياسي والأخلاقي.
كما تنكَّر توران شاه لِشجر الدُّر التي حفظت لهُ مُلكه، فاتهمها بِأنها أخفت ثروة أبيه، وطالبها بِهذا المال، وهدَّدها، حتَّى داخلها منه خوفٌ شديد ما حملها على بث شكواها إلى المماليك البحريَّة الذين يُخلصون لها باعتبارها زوجة أُستاذهم. ويبدو أنَّ توران شاه، بِالإضافة إلى ضعف شخصيَّته وسُلوكه السيِّء، تأثَّر بِآراء مماليكه الذين قدموا معه من حصن كيفا، وأثاروا ضغينته على المماليكِ البحريَّةِ وشجرِ الدُّر، وحثُّوه على التخلُّص منهم حتَّى يتفرَّد أستاذهم بِالحكم وينفردوا هم بالحظوة لدى السلطان ومعاونته في إدارة شُؤون الدولة. نتيجةً لِهذه السياسة الحمقاء حنق المماليك البحريَّة عليه، وتخوَّفوا من نواياه، واستقرَّ رأيهم على قتله قبل أن يبطش بهم وساندتهم شجر الدُّر التي باتت تخشى على نفسها من غدره. وتزعَّم المُؤمراة مجموعةٌ من قادة الجند من الأُمراء البحريَّة منهم؛ فارس الدين أقطاي الجمدار وبيبرس البندقداري وقلاوون الصالحي الألفي وأيبك التُركماني. ونُفذت المُؤامرة صباح الإثنين 28 مُحرَّم 648هـ المُوافق فيه 2 أيَّار (مايو) 1250م، وكان السُلطان آنذاك بِفارسكور يحتفل بانتصاره ويتهيَّأ لاستعادة دُمياط، فاقتحم بيبرس خيمته، وتقدَّم نحوه وضربه بِسيفه فقُطعت بعض أصابعه، فهرب إلى كشكٍ خشبيٍّ حتَّى يحتمي به، فتعقَّبه المماليك وأحرقوه عليه، فهرب منه ورمى نفسه في النيل، فضربوه بِالسِّهام من كُلِّ ناحيةٍ، فحاول أن يلتمس الرحمة لكنَّ المماليك لم يستجيبوا له، وقفز عليه بيبرس وقتله بِسيفه، فمات جريحاً غريقًا حريقاً، وبمقتله سقطت دولة الأيوبيين بِمصر وقامت دولة المماليك.



التوقيع


هنالك 1 عضو يقول شكراً لـ Kinder على هذه المشاركة:
  • Bskowet
  مشاركة الموضوع
#2
موضوع جميل وممتاز اخي سامي بارك الله فيك على تعبك هذا واستفدت منه الكثير من المعلومات القيمة
استمر في هذه المواضيع



  مشاركة الموضوع


التنقل السريع :


يقوم بقراءة الموضوع: بالاضافة الى ( 14 ) ضيف كريم